ادب وثقافة
أبو الروتي

ابو الروتي -14-
عبدالكريم الرازحي
عندما رأيتُ الاضواء تملأ القاعة استغربتُ وقلتُ :
- مالهم سرّجُوا؟
وقبل ان اعرف السبب ..رأيتُ المسينمين ينهضونَ من فوق كراسيهم ويتهيئون للمغادرة.. فازداد استغرابي وسألتُ المسينم الذي بجانبي: - لِمَوْ قاموا ؟
قال: خلاص كمّل الفيلم.
وحينها شعرتُ بحسرةٍ،وبدوتُ متردداً ،وليس لدي تلك الرغبة في المغادرة، ولا الحماس الذي كان يعتريني عند سماع صوت جرس المدرسة وهو يُقرعُ ايذانا بالخروج.
وتذكّرتُ المدرسة ..وكم كنتُ اضيقُ، واضجرُ ، وأنا ارى الوقت يمرُّ بطيئاً ،ثقيلًا، مُمِلًا، مقارنةً بالسينما حيثُ يمرُّ من دون ان تدري اوتحسّ به !!
وفي المدرسة ..عند الخروج.. كنتُ افرحُ من اعماق قلبي لكأني خرجتُ من الجحيم الى الجنة .اما في السينما فقد شعرتُ كما لواني اخرجُ من الجنة الى الجحيم .
وفي طريق عودتي.. رحتُ استرجعُ احداث الفيلم.. واتذكّرُ كلام عامل الفرن :
- السينما جنة الله
وحينها فقط، ادركتُ بأن ماقاله لي عامل الفرن كان حقيقياً، ومطابقاً لمارايتهُ وشاهدتهُ بعينيّ. حتى انني منذ الليلة التي سينمتُ فيها اختل نظام ذاكرتي.. فكانت كلمة “جنة” تذكرني بالسينما وكلمة “سينما” تذكرني بالجنة. وفي مسجد “سوق الحراج” عندما كان الامام يخطبُ خطبة الجمعة.. كان حديثه عن الجنة يُحيلني الى السينما، ويذكّرني بها. وعندما كان يتكلم عن بنات الحُور.. اتذكّر بنات عدن وفاتن حمامة .
لم اكن اعرفُ متى خرجتُ من السينما !!لكن الشوارعَ بدت لي خالية من المارة، ومن السيارات .والاضواء بدت لي خافتةً، واقل سطوعاً.. على عكس ماكانت عليه وانا في طريقي الى بيت جدي علي اسماعيل. والمحلات كانت مغلقة باستثناء” مقهاية زكُّو ” الذي كان شُبَاطَة قد حذرني من دخولها، ومن الوقوف بجانبها، ومن الإلتفات اليها ، و تلك الاكشاك العشوائية امام سينما “مستر حمود” والتي قيل لي فيما بعد بأنها مطاعم السكارى .
كنتُ جائعاً وقت خروجي من السينما.. بسبب تلك الطاقة التي بذلتها اثناء مشاهدتي للفيلم . وكان ان قادني الجوع الى كُشكٍ من تلك الاكشاك التي تُفتح في الليل وتستمر حتى الفجر . ولأن الفاصوليا كانت قد نقلتني من الواقع الى الحلم ، ومن العادي الى الخارق، فضلا عن اني لم اشبع بعد منها.. فقد طلبت فاصوليا ..وقلت بيني ونفسي وانا استرجع صوربنات عدن وصورة فاتن حمامة :
-“اجمل ماخلق ربي.. النسوان والفاصوليا “
وفيما رحتُ انتظرُ الطلب ..دخل رجلان اثنان.. وجلسا في الطاولة على يميني.. وطلبا طلباً غريباً..نوعاً من الطعام لم اكن قد ذقته اوسمعت به اسمه ” جمبري “. واول ماجلسا على الطاولة اخرج احدهم قارورة من حقيبته.. واخرج كأسين اثنين .. وراح يصبُّ في الكأسين شيئا من القارورة التي كانت تشبه واحدةً من تلك القوارير التي كنا نذهب لجمعها بعد صلاة الفجر .وسرعان ماراح الرجلان يشربان من تلك القارورة، ويتكلمان بكلام كبير واكبر من عقلي. وكانت الكلمة الوحيدة التي لصقت بذاكرتي من كل كلامهما هي كلمة : الحرية
كنت قبل مجيئي الى عدن قد سمعت بكلمة الثورة من امي وكان ذلك في صباح اليوم الذي قامت فيه ثورة 26سبتمبر.
اتذكر بانها قالت لي وهي توقظني وكانت زعلانة من كيس نومي المبلول :
- قم قامت قيامتك.. الثورة قامت وانت مكانك تبول .
وقدفهمت من كلام امي حينها بأن الثورة ” أُنثى الثور” وبأن بقرتنا البيضاء التي ماتت هي التي قامت من الموت .
هذا مافهمته حينها من كلام امي عن الثورة .. لكني فيما بعد عرفت ماذا تعني ! وماهو معناها!
اما كلمة الحرية فقد كانت كلمة جديدة عليّ.. لم يسبق لي ان سمعت بها ..ولم اكن قد فهمت معناها لكني بمجرد ان سمعتها لصقت بذاكرتي مثل بذرة تلصق بالتربة . حضر “المباشر” وحضرت الفاصوليا فقلت للرجلين المنهمكين في الشرب والنقاش : - إتفضلوا :
وحينها انتبه الرجلان والتفتاإليّ يشكراني على دعوتي لهما.. ومالبثا ان سألاني عن سبب وجودي في هذا الوقت المتأخر من الليل !!
وحين قلت لهما باني كنت في السينما سألني احدهم : - ايش اسم الفيلم اللي دخلته ؟
قلت : اسمه صراع بالوادي .
وسألني الآخر: - هل اعجبك الفيلم؟
قلت : أيوا أعجبنا .
ورحت احكي لهما عن الفيلم ،وعن الباشا الظالم. وهما يصغيان لي، ويواصلان الشرب.
كان احدهما يشرب على عجل ،والآخر يشرب ببطء. وكان الذي يشرب على عجلٍ يُكثرُ من الاسئلة.
كانا لطيفين معي.. وقد شجعني لطفهما على ان اسألهما عن كلمة الحرية! وماذا تعني! لكنهما سبقاني وراحا يسالاني اسئلة كثيرة وانا اجيب .وفي الاخيرعندما سألاني عن عنواني!!
قلت لهما باني اقيم في فرن الحاج عبد الله عبده ب “سوق الإتحاد” عندئذٍ،قالا لي بأنهما من الاعبوس من قرية قريبة من المفاليس .وطلبا مني ان انتظرهما حتى يوصلاني على طريقهما بالسيارة .
وبمجرد ذكرهما المفاليس رحت استعرض معرفتي امامهما ..واحدثهما عن رحلاتي بالحمار الى المفاليس والى الراهدة مع ” المعادنة” الذين كانوا يستأجرون حمارنا ..وكيف اني كنت ارجع لوحدي في الليل !!
لكنهما قالا بان عدن غير “الراهدة” وغير “المفاليس ” ونصحاني بعدم البقاء لوحدي الى وقتٍ متأخرٍ من الليل .
كان قلبي قد اطمئن اليهما حين رايتهما يشربان من قارورة شبيهة بالقوارير التي نجمعها كل صباح والتي كان عامل الفرن يكرع بقاياها في بطنه .
كانا قد اجهزا على الزجاجة ،و انتهيا من تناول العشاء، واستعدا للمغادرة .وقد اصرا على دفع ثمن الفاصوليا التي طلبتها ..وقالا بأني ضيفهما ولايجوز لي ان ادفع.
كان الرجل الذي يشرب ببطء هو الذي يسوق .. اما الآخر الذي كان يشرب على عجل.. فقد جلس الى جانبه، وجلست انا في الخلف. وكنت سعيدا بالتعرف عليهما ،وبالحديث معهما، وعندمرورنا بالسيارة من قرب” مقهاية زكو” التفتُّ ناحية المقهاية واعترتني قشعريرة رعب.
بعدئذٍ ، وقد اوصلاني الى شارع الاتحاد نسيتُ ان اسالهما عن اسميهما ،وعن معنى تلك الكلمة التي سمعتها تتكرر اثناء نقاشهما : الحرية
لكني لم افقد الامل في ان التقيهما مرة اخرى واسالهما
وحتى لاانساها رحت ارددها بيني ونفسي لحظة رحت ادق باب بيت الحاج :
- حرية.. حرية.. حرية.
وبدلا من ان ينفتح باب البيت انفتح باب الفرن.. وإذا بصوت” الكرّاني “يهوي مثل مطرقة على رأسي :
-اين كنت تتخنّث لاذا الوقت ؟