
العبور الى فنادق الجحيم وبعض مشاهد العذاب
هكذا عبرنا الابواب الداخلية للجحيم بصمت، ولم ار من رفيقي سوى غمغمة، وشعرت بالأسف عليه، عندما لاحظت حذاءه الممزق، وملابسه الشبيهة بأسمال. فمبدع دون كيخوتة، عاش حياة معذبة، ولا يبدو ان العالم الآخر كافأه على ما ابدعه في حياته. هل بالفعل لا قيمة للأدب ايضاً هنا؟ بل ان ثربانتس ظل يتجاهل حديثي عن روايته، وعن اعجابي بها. اردت ايضاً سؤاله عن وضعه في هذا العالم. لكن عدم انفتاحه معي جعلني اتردد كثيراً.
تصاعدت ابواق كئيبة، بسلم غريب وغير مألوف لآذاننا، ويحاورها صوت مزمار هندي يوحي صوته بالتهريج وعدم الانضباط. ودوى انين فاجع، لم اسمع مثل المه بالمطلق. كنا في الشرفة الداخلية نطل على الجحيم ومرآه المهيب. كانت الأشجار على مد البصر بلا اوراق، تبدو كالحطب بين الزيتي والرمادي. كانت منتصبة وتتدلى من فروعها العارية حلزونات عملاقة تشبه عناقيد لازوردية، وافاعي مبهرجة باجراسها المسنونة كتيجان رصاصية. افاعي متعددة الرؤوس تقبض على اجساد وتسحقها لتتساقط جماجمها على ارض بلون الشفق الملتهب.
يبدو المشهد مبهراً بألوانه بالنسبة لرسام، كما لو يوحي بأننا امام غابة تتلألأ بعديد الوانها. وما ان تبدأ باستيعاب هذا المظهر الخادع، حتى يصيبك الدوار، فهاجمني الخوف سارياً في امعائي، واحسست كما لو كنت سأتقيأ.
تناقض محير بين المدخل الباذخ للجحيم بزخارفه، وما نراه الآن من صورة للأهوال.
قال ثربانتس إنك في ملكوت الرب، فكل صورة باذخة تجسيداً لجلالته وعظمته. لم افهم كثيراً هذا الربط. لكن رفيقي اضاف بما معناه: انت لم تر من الجمل سوى اذنه. وبدا صوته القشتالي ينطلق مدوياً. ثم اضاف وهو يصلح من قبعته الرثة: ايها الداخلون الى الجحيم لن يُكتب النجاة لكم.
كانت الأصوات برمتها مُعذبة، بنشازها، فالموسيقى هنا ايضاً مسرحاً للعذاب، ليس فقط برداءتها.
اخبرني عن فرديناند وايزابيلا ملكي قشتالة واراغون، ومساكنهم في الجحيم، إنهم يتجاورون مع بعض ملوك الاندلس المسلمين. بغتة سمعت صوت ينادي يا محمد. ورأيت خلفي، كان ابن موطني برداءه التقليدي، وسلاحه يجري لاهثاً وكرتي القات تملآن فمه. المسلح الذي التقيته عند احدى بوابات الجحيم الداخلية.
في تلك الأثناء، هدرت اصوات ايقاعية غير منضبطة ولو انها تتماثل متباعدة. واثناء نزولنا من المنحدر الوعر، تحركت الأحجار مثل دواليب تحت اقدامنا، فكنا نتأرجح كما لو اننا على شفا السقوط. وبينما اختنق ابن موطني بالقات في فمه، وكانت الاجراس وصوت موسيقى يهدر مثل الريح، وفي سقف الجحيم اللامتناهي تترامى الحمم زرقاء وارجوانية، وفي الفلوات الملتهبة تنضج العظام ويعود اصحابها احياء مجدداً ليلقوا عذاباً فاجعاً.
ياله من مشهد يثير الحيرة، فلا تعرف اين يبدأ البحر وأين تبدأ اليابسة ولا تدري تلك الضفاف الملتفة كأفعوان إن كانت انهاراً او بحيرات، ويالها من موسيقى تزحف كالنوائب فتثير الرعب. بينما ابن بلدي يتلفت يمنة ويسرة. وشكا لي انهم لم يعطوه غرفة في فنادق الجحيم، فهناك ايضاً كانت شيطانات تنتظر في الردهات وفي الغرف الحمراء لتمتص بشهوانية سكان الجحيم. كانت مباني كئيبة، وتقف على ابوابها غربان عملاقة، وبومات تشع نظراتها من النوافذ. والغريب ان اصوات طناجر تصطخب، وفقاعات تغلي، وروائح نافذة. وفي تلك الفنادق يقدمون بزجاجات الويسكي مشروب اسيد لهؤلاء الداخلين، كان ابن بلدي يتغرغر ألماً بعد رشفات منه، وسكب له نادل وسيم اشبه بكازانوفا، شعره البندقي مفروقاً، وعينيه اللوزيتين فاتحتين، ذلك المشروب في كأس انيق، وكان الدخان ينبعث من السائل الأخضر الذي يميل الى الزمردي.
مر من هناك تاجر العبيد والسلاح رامبو. لم يتحدث اي شخص عنه كشاعر. وسألني: كيف صارت عدن؟ غير ان دهشتي انتفضت حين لاحظت لوحة مكتوب عليها: فندق عدن.
وحين غاب ابن موطني رأيته معلقاً في احدى الاشجار، تلتهم رأسه احدى الحلزونات، بينما تعصر جسده افعلى ضخمة متعددة الرؤوس، وكان صوته ينتفض من الألم. وبعد مئتي متر، عاد يلهث نحونا بنفس مظهره السابق.
كيف شعرت؟ سألته لكنه لم يعد يتذكر شيئاً. ولاحظت ان ثربانتس لم يأبه لوجوده، كما لو كان شبحاً. وبينما يمضغ القات بلذة، وتارة يختنق به وتخرج عيونه من محاجرها، كان يتحدث عن سبب وجوده هنا.
اخبرني بأنه احد الشهداء.
هل كنت شهيداً؟ سألته بذهول. اكد انه كان من المجاهدين. ولاحظت فجوة في عنقه صنعتها رصاصة، واردته قتيلاً، ومازال حولها اثراً قرمزياً. وفي النفق المظلم التهمته كلاب الجحيم. ثم عاد مجدداً، ليقول ان ما يتذكره فقط، تلك الأنياب التي اثارت لديه بعض الكركرة. وفي الطريق رأيت موكباً غريباً وعرايا بأجساد مثيرة، رائعات الجمال. وقال البعض انه موكب مبعوث السلام الى اليمن، غريفيث. ربما مازال اليمنيون يحاربون بعضهم في الجحيم. وهو ما كان بالفعل.
ولاح امامي رجل يرتدي قلنسوة، انفه معقوفاً، وبدا مهموماً ومكفهراً. عاد ثربانتس لتكشيرته، وصرح بأنه يشعر بالضجر كما لو كان جسده في سجن الأبدية. فهل هذا العالم سجن ابدي. والموت بالنسبة للإنسان كان الخلاص في دار الفناء. لا ادري ماذا اقول؟ كان كل شيء غريباً امامي، وامتد سلطان الكآبة نتيجة اصوات الموسيقى، اما مظاهر العذاب فسرعان ما اعتدنا عليها. وفي الطريق رأينا رجل برداء يعود للعصر العباسي، يقف كما لو انه بانتظارنا.
فكرت به قبل فترة صغيرة، كان الشاعر العباسي ابو نواس. قلت له: الم تتب في آخر عمرك كما نعرف عنك.
وما الفائدة من التوبة في خريف العمر، بعد ان تحتضر اعضاءك وتصبح اللذة محفورة في الذكرى. وفي الطريق كان يغيب ابن موطني لعذاب ألم به، فهو لا يعرف اين مسكنه. وعذابه ان يبقى تائهاً في الجحيم مليون سنة حتى يتم تقرير مصيره. كم قتل؟ لا يتذكر. ففي الحرب تقتل ولا تفكر بعدد ضحاياك. وهناك حشود توقفت بهم العربات، لأن البنزين اختفى.
يالتلك النكتة هل في الجحيم ايقاع حياة يتطلب وجود البنزين. ولماذا يحتشر الناس امام دكاكين توزع عليهم انابيب الغاز،. كان عذاب البعض ان ينتظر في طابور طويل، وحين يصل دوره تكون انابيب الغاز انتهت. قال ثربانتس ان الاحتراق بالغاز افضل من نار الحطب، تحدث الأشياء بسرعة. ارتفعت اصوات زوامل، واناشيد، واغاني تثير النشاز. وظهرت رقع ترفرف بكتابات غريبة، ماذا يحدث هنا؟ لماذا يزدحمون؟
قال ابو نواس انهم ينتظرون كروت تموينية. كان الجميع بملامح من الضياع، يحتشدون، واحدهم يبكي لأنهم اعطوه نصف راتب بعد ستة اشهر، وكانت الأوراق النقدية ممزقة.
وماذا ستفعلون بالمال هنا؟
استمر بالبكاء رغم انه لا يعرف بماذا يجيب. وظهر جريفيث يتحدث عن السلام في شاشة كبيرة. لكن عينيه حمراوان كجمرتين، وبدت ملامحه اكثر خبثاً وربما اعاد لها الذعر بعض الانسانية ايضاً. وظهر المتحاربون ايضاً، وسألت نفسي بينما اعبر اسواق القات، في الجحيم، إن كنت قد عشت هذا الجحيم في السابق، او ان حياتنا هي الجحيم بعينه. واستعدت اللوحة المكتوب عليها “فندق عدن”. وحين اثقلني الهم، ربت ابو نواس على ظهري، وقال لا تقلق، انهم دائماً يحتربون. ورأيت فجأة ابن موطني وقد انضم الى شيخه، ونصبوا قطاع في الجحيم، لنهب العابرين. اذن كان البعض بحاجة لنصف المرتب من اجل العبور فقط.
العبور الى الجحيم بحاجة الى بعض الأشياء التي عذبتنا في حياتنا الفانية.