ادب وثقافة
أبو الروتي

أبو الروتي
عبدالكريم الرازحي
-12-
بعد ان حفظت اسم الفيلم، واسماء الممثلين .سالت احد هم عن كيفية الدخول الى السينما!! فقال لي- وهو يشير الى شباك التذاكر- بأن علي ان اقطع تذكرة.
قطعتُ التذكرة.. واتجهتُ الى الداخل.. لكن الابواب كانت موصدة. وحين رحت اطرق الباب.. صاح بي احدهم وطلب مني ان ابتعد .
لحظتها ،ساورني شعور بانهم نصبوا عليّ، واخذوا فلوسي ،دون ان يسمحوا لي بالدخول.
ولشدة انزعاجي ..عدت الى الموظف المسئول عن قطع التذاكر وقلت له وانا زعلان :
- رجّع لي فلوسي
وحين سالني الموظف عن سبب زعلي!! اخبرته بأن البواب لم يسمح لي بالدخول.
قال لي قاطع التذاكر بأني سوف اسينم في الشوط الثاني .
ولم افهم مايقصده بقوله “سوف اسينم في الشوط الثاني “فضلا عن ان كلمة شوط كانت جديدة عليّ، وغامضة .وحين رحت استوضح منه صعّبها عليّ اكثر حين راح يتكلم بلغة الساعة التي لاافهمها .
وقتها لم اكن اعرف لغة عقارب الساعة.. وكان الزمن عندي.. انا الطفل القادم من القرية.. ينقسم الى ليل، ونهار .والنهار ينقسم الى صبح، وظهر، وعصر، ومغرب. اما الليل فكان كله ليل.. لكن ليل المدينة كان مختلفا ،و لم يكن مظلما مثل ليل القرية، وليس فيه وحوش تخيف.. وكان ذلك هو ماشجعني على قطع تذكرة الدخول.. اما عن دخولي فكل ماقاله قاطع التذاكر بدالي غامضا وزاد من ارباكي .
وتذكرت بانه في مدرسة القرية ” مدرسة البعث” التي درست فيها الى الصف الثالث ابتدائي كان هناك جرس يُقرع عند الدخول ،وعند نهاية كل حصة، ويُقرع عند الخروج .
وسالتُ قاطع التذاكر الذي كان قد ضاق بي وباسئلتي: - هل ادخل عندما يدق الجرس ؟
لكن قاطع التذاكر لم يحتمل سؤالي الاخير ..كان القشة التي قصمت ظهر البعير.
لقد استفزه سؤالي واغضبه وجعله ينظر الي بازدراء حتى انه راح يهشني كما لواني ذبابة.
وصادف ان الشخص الذي كان يقف خلفي طلع انسان محترم وقال لي :
- اول ماتشوف المسينمين يخرجوا ادخل.
وعندها فهمت ،وابتعدت عن الشباك. لكن قاطع التذاكر الحقير .. بدلا من ان يوضح لي.. راح يكلم اولاد صعاليك بماقلته له، وراح هؤلاء يقتربون مني، ويتحلّقون حولي، ويسالونني : - من اين انت؟ من اي قرية؟ هل في قريتكم سينما؟ وهل الناس يدخلوا السينما بعد سماع صوت الجرس؟
كانوا يسالوني ويضحكون، ويسخرون مني، ومن ملابسي، ومن كلامي القروي، وكانت ضحكاتهم جارحة ،وموجعة. لكنهم كانوا اربعة يعبثون بي وانا وحدي.
كان شباطة قد قال لي بأن السينما تعلم قلة الادب ،وان الصعاليك وحدهم يدخلونها فقلت بيني ونفسي :
-هاذم صعاليك وقليلين ادب.
وكان لدي يقين بانهم تعلموا قلة الادب من السينما لكني في تلك اللحظة كنت خائفا من وجودي جنب السينما وجنب هؤلاء الصعاليك وتذكرت كلام شباطة وهو يقول لي بنبرة تهديد : - “لوشافوك داخل، اوخارج من السينما، اوشافوك تحوم جنبها. خبرك بايوصل لاعندي. وبعدمايوصل لاعندي، بايوصل لاعند اخوك سيف.ولو وصل لاعند اخوك سيف بايرجعك القرية. “
وقد خُيِّل اليّ بأن لدى شُباطة شبكة من الجواسيس.. يراقبوني، ويتجسسون عليّ.
و حتى لايبصرني احد من جواسيسه، او احد من اقاربي، او من اهل قريتي، انسحبت من امام السينما، وبقيتُ اراقبُ من بُعد خروج المسينمين. وكان عليّ طالما ليس هناك جرسٌ يُقرع ،وصوتٌ يُسمع ان اعتمد على عينييّ، وان ابقى يقظا، وأُبقي عيوني مفتوحةً..
ولاادري كم جلستُ انتظر.. لكنه كان انتظارا صعبا ..وممازاد من صعوبته هو ان مثانتي كانت ممتلئة، ومنتفخة، ومفخخة بالبول .وليس لدي علمٌ عن الامكنة التي يُفرِغُ فيها اهل المدينة مثاناتهم حين تمتلئُ وتنتفخُ وهم خارج بيوتهم !! لكن مثانتي لم تكن تحبس بولي فقط. وانما كانت قد حبست عقلي، ومشاعري، وعكرت مزاجي،وضيّقت عليّ وجعلتني ابصرٰ مدينة عدن ضيقةً، واضيقُ من خُرم عضوي ،ومن خرم الابرة . انفتحت الابواب.. ودخلتُ الى مكان مظلم .وعلى طريقة العميان ..رحت اتخبّط ،وامد يديّ امامي ..اتحسّسُ بهما طريقي .. وحين لامستُ اول كرسي تشبّثتُ بها .. وكان اول شيئ فعلته.. بعد ان قعدت على الكرسي.. هو انني اطلقتُ العنان لمثانتي واعطيتها الحرية كاملة حتى آخر قطرة.
ولحظتها شعرتُ بارتياحٍ ،وبارتفاعٍ في المعنويات . الاان معنوياتي سرعان ماانهارت لحظة ابصرتُ رجلاً يتحركُ بمصباح يدوي “لايت ” ويمرُّ من جنبي .
لقد خفتُ ان يقودهُ ضوء مصباحه الى اكتشاف جريمة تبولي داخل السينما .
ومثل المجرم الذي يبتعد عن مسرح جريمته.. رحتُ ابتعد واقعد في مقعد بعيد .
وبمجرد ان جلستُ.. اقبل احدهم وراح ينظر اليّ بطريقةٍ اخافتني .. حتى لقد توقعت بانه سوف يقبضُ عليّ بتهمة التبول داخل السينما .
لكن الرجل قال لي بان المقعد الذي جلستُ فيه مقعده .
ولشدة فرحتي تركتُ لهُ المقعد وذهبتُ ابحثُ عن مقعدٍ آخر .
ليلتها ،كنتُ كلما جلستُ في مقعد ..ياتي احدهم ويدّعي باني جلستُ في مقعده .
وكنتُ استغربُ واقولُ بيني ونفسي : - ايش معنى كلما جلستُ بمكان يقيّمونا ويجلسوا بدلي .!!
كانت المقاعد كلها فاضية اول مادخلت ..وبعدها امتلات السينما بالمسينمين ..وانا مازلت بدون مقعد. وفيما رحت اتخبّطُ في الظلام بحثا عن مقعد.. اقبل نحوي رجل المصباح اليدوي وسألني عن تذكرتي : - اين تذكرتك؟
وكان سؤالهُ عن التذكرة قد صعقني واربكني فبدوتُ مرتبكاً ..ولم ادر ماذا اقول!! ولابماذا ارد عليه !! والحقيقةُ هي اني كنتُ قد استنجيتُ بالتذكرة والقيتُ بها تحت الكرسي.
لكني بعد ان استعدتُ رباطة جأشي و اخبرتُ رجل المصباح بان التذكرة ضاعت مني
لم يبدُ عليه انه صدقني ..وكان على وشك ان يطردني ..ثم لاادري ماالذي جعله يرفق بي ويرشدني الى مقعد شاغر في نهاية الصالة .
كان مزاجي سيئاً ..ومعنوياتي في الحضيض ..وثمة شعور بالندم، والذنب. وكنت اتوجّسُ خوفاً من المسينمين الذين دسّني بينهم رجل المصباح. وقد بدالي انهم صعاليك اوربما سكارى.. كانوا يتكلمون بصوت عال.. وكان الجالسُ خلفي مباشرةً يسبُّ، ويشتمُ شتائمَ لم يسبق لي ان سمعتها ..ولم ادر من هو الشخص الذي يوجه اليه شتائمه!!
وفيما رحتُ انكمشُ خائفا في مقعدي .. ضوّت السبورة البيضاء المعلقة عرض الجدار.
واول ماضوّت خيّم الصمتُ على القاعة ..وسكتوا كلهم.. بمافي ذلك السكارىوالصعاليك. سكتوا مثلما يسكتُ التلاميذ المشاغبين عند دخول المدرس الى الفصل .
كان سكوتهم قد ادهشني واثار استغرابي وقلت بيني ونفسي :
- مالهم سكتوا !!
وعندما رحتُ احملقُ في السبورة البيضاء .. رايت صورة تشبه صورة جمال عبدالناصروكنتُ قدشاهدتها في مجلة المصوّر المصرية التي كان اخي عبد الحليم قد احضر اعدادا منها الى القرية. وقد خُيِّل الي حينها بانهم سكتوا خوفا من جمال عبد الناصر .
كان ظهور جمال عبد الناصر في السينماقد اخافني انا الآخر.. غير ان خوفي كان مختلفا .. خفتُ من ان يكون – اصحاب السينما – قد خدعونا ،وزادوا علينا،وجابوا لنا جمال عبد الناصر بدلا عن الفيلم .
كان ثمة صراع يحتدمُ في داخلي :هل ابقى ام اخرج؟ هل انتظر ام اغادر؟ وقبل ان احسم امري قلت اسأل المسينم الذي جنبي : - ليش جابوا لنا جمال عبد الناصر وماجابوش الفيلم؟
وكان جوابه هو انهم سوف يعرضون الفيلم بعد الانتهاء من نشرة الاخبار.
كان اسم الفيلم (صراع في الوادي )بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف واخراج يوسف شاهين.
وبمجرد ان اختفى جمال عبد الناصر من على وجه السبورة، واختفت نشرة الاخبار ،وبدأت احداث الفيلم .حتى تبخّر شعوري بالاحباط، وتبخّرت معه كل تلك المشاعر السلبية ..وشعرت كمالواني انتقل من الظلمة الى النور .
لكن البداية الحقيقية للفيلم كانت مع ظهور” آمال” ابنة الباشا ” فاتن حمامة ” لقد كان ظهورها فاتنا، ومدهشا، وضعني في مزاج رائع.. ولم اكن حتى تلك اللحظة قدرايت امراةً بقصة شعر ٍتشبه قصة شعرها ..اوسمعتُ صوتا انثويا يشبه صوت انوثتها.. وكان ان داخلتني قشعريرة لذيذة..وانا اسمع حديثها مع حبيبها المهندس احمد “عمر الشريف”
لحظتها ،لم اعدادري هل انا في الواقع؟ ام في الحلم ؟في الارض ؟ام في السماء ؟في السينما؟ ام في الجنة ؟
وعلى عكس جميع المسينمين لم اشعر بتلك المسافة التي تفصل بيني وبين مااشاهده في الشاشة. ولم يخالجني ادنى شعور بأن مااراه غير حقيقي.. اوانه مجرد تمثيل ..
اوان رياض ” فريد شوقي ” الذي قتل الشيخ عبد الصمد وواصل القتل كان يمثل دور القاتل ودور المجرم.
لقد رحتُ اندمجُ في الفيلم، واتماهى مع الممثلين، واتفاعل معهم ،واشاركهم انفعالاتهم . وكانت الاصوات التي تنبعثُ مني لااراديا تزعج المسينمين من حولي، وتثير استياء البعض وغضب البعض الآخر. وكثيرا ماكنتُ اسمعهم يطلبون مني ان اسكت :
- اسكت ياوُليْد خلينا نسمع.
وبصعوبةٍ،رحتُ اكبتُ انفعالاتي ،وصيحاتي، واحبسها داخلي .لكني حين رايتهم يتهمون صابر
” عبد الوارث عسر “بانه الذي قتل الشيخ عبد الصمد .. صحتُ صيحةً طلعت لاارادية من اعماقي :
- مش هو اللي قتل .
وكانت صيحتي تلك قد لفتت انتباه المسينمين الذين راحوا ينظرون اليّ بازدراء ..اما الرجل السكران في المقعد الخلفي فقد راح يشتمني، ويشتمُ امي، ويهدّد بانه سوف يقذف بي للخارج إن لم اسكت.
بعدئذٍ، لذتُ بالصمت ،ورحتُ اتفاعلُ مع الاحداث بصمتٍ موجع . و عندما حكمت المحكمة على صابر”عبد الوارث عسر “اب المهندس احمد “عمر الشريف “بالاعدام كانت بي رغبة لأن اصرخ واقول للقاضي بان صابر بريئ ،والشاهد حسان كذاب .لكني خفت من المسينمين ومن ردفعل الرجل السكران الذي كان خلفي مباشرة .
ولشدة تعاطفي مع المهندس احمد ” عمر الشريف ” وخوفا عليه من سليم الذي راح يصوب بندقيته نحوه ليأخذ بثأر ابيه الشيخ عبد الصمد نسيتُ نفسي ونسيت المسينمين من حولي ونسيتُ الرجلَ السكران في المقعد الخلفي وسمعت ضميري يصرخ قائلا :
- حرام ..قتلوا ابوه وهو بريئ وذلحين يقتلوه ايش ذنبه!!
وكان ان صحتُ بكل صوتي منبها ومحذرا : - اوبه يااحمد
ولحظتها ..راح الكل يشتمني .. اما الرجل السكران.. فقد وجّه لي لكمةًقويةً من المقعد الخلفي ..لكني لم احس بها الابعد خروجي من السينما. والسبب هو اني في تلك اللحظة التي وجّه لي فيها لكمتهُ كنتُ في ذروة تفاعلي مع احداث الفيلم الذي كان قدبلغ ذروته.
لكن مااثار دهشتي واستغرابي ..هو ان المسينمين ..كانوا يسكتون عندما يرون مجرما مثل رياض وهو يقتل .. او شخصا مثل سليم يخطئ ويوجه رصاص بندقيته باتجاه احمد بدلا من ان يو جهها باتجاه رياض المجرم الذي قتل اباه .
كانوا يسكتون ،ويلوذون بالصمت، ولايتكلمون . وكنت اذا تكلمتُ ..يسكِّتوني، ويصرخون فوقي ،ويشتمونني.
لكنهم فيما بعد عندما شافوا “آمال” بنت الباشا “فاتن حمامة” تبوس حبيبها احمد
بعد اصابته بالرصاصة التي اطلقها عليه سليم هاجوا وصاحوا وارتفعت اصواتهم عاليا
وقلت بيني ونفسي :
- ايش من ناس هولا !! يشوفوا رياض يقتل ويسكتوا.. ولوما شافوا آمال تبوس حبيبها احمد وهو بين الحياة والموت هاجوا وصاحوا وقيَّموا القيامة !!
اما انا فحين رايت فاتن حمامة تبوس احمد ” عمر الشريف “
قلت بيني ونفسي واااااااو موذا !! بنت تبوس راجل!!
وكان ان قذفت بي تلك القبلة الى القرية والى الفقيه سعيد وتخيّلت رد فعله وماذا سيقول : - هذي علامة من علامات قرب قيام الساعة
اتذكر اني في صيف عام 1981 وفي مهرجان موسكو السينمائي التقيت بمخرج الفيلم يوسف شاهين وقلت له بان فيلم صراع في الوادي هو اول وآخر فيلم مصري شفته .
طبعا هو اندهش واستغرب وقال محتجا : إزّاي !!
قلت له له باني شاهدت عشرات الافلام المصريه بعده لكن جميع تلك الافلام التي شاهدتها لم تستطع ان تقلل من حبي واعجابي بفيلمه صراع في الوادي .. وشاهدت عشرات الممثلين والممثلات وعشرات الابطال والبطلات لكن بطَلَي فيلم صراع في الوادي
هما الافضل والاقدر
ولحظتها ابتسم يوسف شاهين وبدا فرحا مثل طفل.
وفي اليوم التالي عندما اخذوا المخرجين والممثلين واخذوا جميع المشاركين والمدعوين بمافي ذلك المسينمين امثالنا بالقطار السريع الى لينينجراد لزيارة متحف الارميتاج خضتُ داخل القطار صراعا اعظم من (صراع الوادي) مع شخص لم يعجبه كلامي الذي قلته للمخرج يوسف شاهين
طوال الرحلة وهو يريد ان يقنعني بان فيلم” صراع في الوادي ” من اتفه الافلام .
لكن ماعلينا المهم هو اني بعد خروجي من السينما وخروجي من الغيبوبة السينمائية شعرت بألم شديد في ظهري .. ومن شدة الالم استيقظت ذاكرتي وتذكرت لكمة الرجل السكران .